إذا كان شاعر العربية "'المتنبي" يقال عنه في مجال واحد وهو الشعر في عصره، قد ملأ الدنيا وشغل الناس، فإن أستاذنا العلامة القدير الدكتور محمد رجب البيومي قد أبحر بقلمه في حياتنا الثقافية والأدبية، وتنوعت إبداعاته وإسهاماته العلمية والفكرية والأدبية والتاريخية والدينية، فقد كان - رحمه الله تعالى وطيب ثراه - متنوع العطاء والإبداع في كثير من المجالات العلمية المختلفة، فهو الكاتب والمفكر والباحث والناثر، والشاعر والناقد الفذ، والمعلم المربي، وهو صاحب الكتب والمؤلفات النافعة، والمقالات الماتعة، حيث برع في الأدب والشعر واللغة والبلاغة والفكر والقصة والتاريخ وقصص الأطفال وغيرها، بجانب تضلعه وتعمقه في العلوم الإسلامية، مع إسهاماته الثرية والعظيمة في الحياة الثقافية على مدى أكثر من نصف قرن، عبر الدوريات و المجلات الثقافية وكبريات الصحف في مصر والوطن العربي بأسره، أمثال: الرسالة، والهلال، والثقافة، والفيصل، والمجلة العربية، المنهل، والحج، والأدب الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، والأقلام، ومنار الإسلام، ومجلة الأزهر التي أكان أحد كتابها الدائمين، ثم تولى رئاسة تحريرها فيما بعد.
ولد العلامة والمفكر الموسوعي الكبير الدكتور محمد رجب البيومي، عام 1923م في (الكفر الجديد) التابعة لمدينة المنزلة بمحافظة الدقهلية بمصر، ونال عالمية الأزهر 1949، ودبلوم معهد التربية 1950، والماجستير 1965، والدكتوراه في الأدب والنقد مع مرتبة الشرف الأولى عام 1967م.
تولى البيومي - رحمه الله تعالى وطيب ثراه- عبر مسيرته العلمية والعملية، العديد من الوظائف، فهو عميد كلية اللغة العربية بالمنصورة سابقاً، والأستاذ المتفرع بقسم الأدب والنقد بجامعة الأزهر، والرئيس الأسبق لتحرير مجلة الأزهر، وهو يعد من أواخر جيل العمالقة والموسوعيين واللغويين العظماء، الذي جمع بين العلوم العربية والإسلامية، وكان طرازاً فريداً فيما يكتب، وتميز حضوره العلمي في العديد من المجالات العلمية، حيث كتب حول العقيدة والقرآن الكريم والحديث الشريف، والاستشراق، لكنه اعتنى كثيراً بالأدب الذي هو مجال تخصصه، فقد تأثر بكبار الأدباء والعلماء والمفكرين العظام في زمنه، أمثال: محمد فريد وجدي، محب الدين الخطيب، محمد الخضر حسين، أحمد حسن الزيات، أحمد أمين، ومحمود تيمور، وغيرهم.
كما كان شخصية متعددة المواهب والجوانب، وشملت مؤلفاته العديدة مجالات الأدب شعراً ونثراً، والدراسات الأدبية والبلاغية والنقدية، حيث ترك لنا العديد من المؤلفات القيمة، فقد ترك أكثر من سبعين كتاباً، وآلاف المقالات المنشورة في العديد من الدوريات والمجلات والصحف، كما كان أديباً فذاً وشاعراً بارعاً، ترك العديد من آثاره العظيمة في مجال الدراسات الأدبية والعلمية، نذكر من بينها: "البيان القرآني" و" البيان النبوي"، و" أدب السيرة النبوية عند الرواد المعاصرين"، و" الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير"، و" النقد الأدبي للشعر الجاهلي"، و" دراسات أدبية"، و" نظرات أدبية"، و" حديث القلم"، و "بين الأدب والنقد" وغيرها كثير.
ومن الدواوين الشعرية، نذكر منها: " صدى الأيام وحنين الليالي"، و" من نبع القرآن"، و" حصاد الدمع" الذي رثى فيه زوجته التي رحلت عنه منذ أربعين سنة.
وله أيضاً العديد من الكتب في مجال التاريخ الإسلامي والسير والقضايا الإسلامية، وعدد من القصص والمسرحيات الشعرية، ومجموعة كبيرة من قصص الأطفال في أجزاء متوالية، وله بعض الكتب تحقيقات وجمع ودراسة.
فهو كاتب موهوب، غزير الإنتاج، عميق الفكرة، دقيق المعالجة، متين الأسلوب، تميزت كتاباته بأسلوب أدبي رائق، حتى لترى نثره يفيض شاعرية، وكتاباته تتوهج إبداعاً، له قاعدة كبيرة من صفوة القراء والأدباء والمثقفين الذين يهتمون بكتاباته ومؤلفاته اهتماماً شديداً، ويجعلونها مراجع لبحوثهم وكتاباتهم المتعددة.
يقول عنه الأستاذ الدكتور (إبراهيم صلاح الهدهد) في صدر تقديمه لأحد كتب المفكر الراحل" الأزهر بين السياسة وحرية الفكر ": " رحم الله العالم الجليل صاحب القلم الفذ، والعطاء الفياض الذي نذر حياته خادماً للعربية، تأليفاً وإبداعاً وتدريساً، وتجديداً، كما عاش قلماً صادقاً للإسلام، ما انفضت كنانته يوماً، في عفة صادقة، وحجة دامغة، مع حسن أدب، ونصاعة بيان، ما حال بينه وبين قلمه إلا لقاء ربه، أكثر من ثمانية وثمانين عاماً، كانت كلها جهاد قلم صادق أمين، تحت راية الإسلام ولغة العرب، والأزهر الشريف" (ص3).
كان الدكتور البيومي زاهداً في حطام الدنيا، عازفاً عن المناصب والشهرة، يجد متعته الكبرى بين كتبه، وخلوته، وكان لا يحب الأضواء، فلم يرغب الترشح للحصول على إحدى جوائز الدولة التقديرية.
ومن الجوائز والأوسمة التي حصل عليها تقديراً لإسهاماته العلمية المتميزة، نذكر منها جائزة وزارة التربية والتعليم عن المسرحية الشعرية" ملك غسان" عام 1958م، وجائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب عن مسرحية" انتصار" عام 1961م، وحصل على جائزة مجمع اللغة العربية عدة مرات.
وتذكر المصادر أن الدكتور البيومي حظي بتشجيع لم يكن يتوقعه من الأوساط الأدبية والصحفية، نظراً لما عرف عنه بأنه صاحب قلم سيال بديع، وقد كثرت تآليفه، وتعددت مجالات فكره، وإبداعه في الأوساط الأدبية والثقافية والصحفية، فقد كان واحداً من فرسانها الأفذاذ، ورائداً من روادها الكبار، وأديباً مرموقاً لا يشق له غبار، وصحفيا مشهوراً لا يبارى ولا يطاول، ورمزاً من رموزها الأدبية المبدعة في العصر الحديث.
لقد أشاد بكتاباته ومؤلفاته الثرية العديد من أهل العلم وأرباب الأدب في كتبهم، كما أعدت عنه الباحثة" عزة محمد البكري" رسالة ماجستير، بعنوان: " محمد رجب البيومي، حياته وشعره" بإشراف الدكتور النبوي عبد الواحد شعلان، في جامعة الأزهر بالمنصورة: كلية الدراسات الإسلامية والعربية(بنات)عام 1989م.
توفي المفكر الموسوعي الكبير في الخامس من فبراير عام 2011م، وبفقده ورحيله خسرت المكتبة العربية أبرز العلماء .
بقلم : د. سليمان جادو شعيب
محرر مجلة النيل الفرات
إرسال تعليق