الحافظ محمد أجمل حمزة
الحب للأمهات يبقي في المنشورات، إذا حضر عيد الأم فيملأ ظاهر قلبنا بالود والمحبة إليها، فننشر المنشورات عن الام في الواتس والفيس وغيرهما بل ينحصر فيها. فهذه قصة تقص عليك تضحية أم ضحتها لابنها.
عاشت في قديم الزمان والدة متكسرة العين مع رضيعها اليتيم ابن ستة أشهر، سمّته أنسا هدفا منه يكون لها طفلها مثل أنس رضي الله عنه الذي خدم لرسول الله تسع سنين خدمة جبارة ولم يقصّر فيها أصلا، قبل أن يعرف صغيرُها الغثّ من السمين ارتحل زوجها الى جوار الله تعالى لقاء حادثة مرورية بينما يسافر معهما، وتخلصت هي وأنس بجروح، بعد وفاة الزوج تدهورت حالتها الصحية، ولكنها رغم الأسى الماحق والحزن الساحق أكّدت انها لا تُشعر ابنها الحنون القلق والرهق وتكون طلّاع الثنايا، فنهضت من جميع ما يجعلها في اليأس وطيلة الضغوط، ونسيت كلّ ما دارها من الألم والحزن، وعلقت تعيش من أجل حيات طفلها الرضيع وحده، وتوَظّفت كل وظيفة تمكن، وربت حنينَها بأحسن تقويم كأنه إذا وُضع في الباحة أصابه التراب وإذا وضع في الرأس أصابه الدهن، فصانته منهما.
دارت بهما الأيام وطَوت الليالي، ترعرع أنس بلا يأس ولا شعر بأس، كانت طفولته عامرة بالسعادة، لم يشعر عدم والد حيث كانت تربية أمّه على حسب إيجاد جوّ يسوده البهجة والإغتباط دائما. بعد أن تجاوز أنس خامسة من عمره قالت له أمه: يا بني، أنت اليوم تلتحق بمدرسة كبيرة، ويكون لك أصدقاء جديدة، تدرس معهم وتلعب معهم فترتع معهم هناك، صار اَنس سعيدا جدّا، وأُغرم بالالتحاق بها، أغسلَته أمه صباحا و ألبسَته أجمل ثوب وتطيّبتْه فتزيّنَته، حتى أَلحقته أمه لدراسته الابتدائية بمدرسة كبيرة يلتحق بها أطفال الأغنية، ما تقلّصت أمه في إنفاق المال له ولم تشح فيه شيئا، وأخرجت له ما لها مِن المن والسلوى، والصحة والقوة، وكان أنس يذهب إلى المدرسة مع کل سعادة، وإذا رجع منها قال لأمه عما حدث في المدرسة مِن الدراسات واللعوب، شعرت بالسعادة في كل نبذة تطور أنس واغتبطت في كل لحظة كان فيها أنس معها، ما راعت تضعّف جسدها ونفَسها وعدم بصر إحدى عينها، كانت الغاية المقصودة المنشودة في قلبها والرغبة المكتظة المزدحمة في بالها هي تنمية أنس ابنها العزيز، فتركت الدنيا ورفاهية العيش لبقية دنياه سعيدا ولزخرف حياته.
كان أنس طالبا ممتازا، يدرس بالفترة ويحفظ كذلك، وفاق في كل الدراسة والرياضة معا، ولذا أصبح محبَّ الأصدقاء والمدرسين، نجح أنس من صف الى آخر بالأرقام الفائقة، لكن بالنسبة إلى أنس كانت أمه مسبّبة لتقلّل حسَبه حيث كانت متكسرة العين، فلم يكن يمنح أمه لتجيء أمام أصدقائه، فمنعها منه، وكان أنس يذهب إلى المدرسة مع أصدقائه، وفي يوم من الأيام كاد الأصدقاء يقتربون من بيته فقال لأمه: اذهبي يا أمي داخل المنزل، وأصدقائي إذا رأَوك سخروا مني واستهانني، فدخلت الأم إلى البيت مجيبة له، وذهب أنس مع أصدقائه إلى المدرسة.
نجح أنس في الامتحانات بالدرجة العليا والتقديرات الجيدة، حتى التحق بالكلية والجامعة، وأنجز على الوان من العلوم والمعرفة، وحصل على شهادات ذات قيمة عالية، فسنح له الفرص سِلك الوظائف تعرُض له راتبا غفيرا. وكانت أم أنس تزداد سعادة بمشاهدة انجازات ابنها وحصول وظيفة ذات حسب عظيم وراتب غفير، وفي إحدى الايام دعت انسا وقالت له: ابني العزيز صرت عجوزا ولهبت شيبا ولا أستطيع ان أقيم بالأنشطة المنزلية بوحدي كما ينبغي، فلا بدّ أن تتزوج آنسة مناسبة لك تختارها وتحبّها، فأجابها أنس: نعم يا أمي أتزوج فتاة تحبني و ترعيك، سعدت أم أنس من إجابته و علمت أن ابنه يحبها وتوَهّمت أن زواجه يتيح لها الاستراحة والاغتباط.
بعد القلائل من الأيام تزوّج أنس فتاة تسمى فاطمة وكانت جميلة من أسرة غنية، تعايشا في بيت أنس سرورَين، لكن للأسف البالغ كانت فاطمة لم تحب أم أنس بل كرهتها، وحملت عليها كل إدانة وظلمة، وأخذت تقول بين الفينة والأخرى سرا: هذه العجوز المتكسره العين أُراعيها وأعمل لها طوال الليل والنهار كأنني أََمة لها، جعلَتْ تتفكر كيف يغادر أنس هذه العجوز الدميمة وكيف ينكرها، أخيرا قررت ان تقول لأنس عن ترك الأم إلى دار المسنين، حتى راحت إلى أنس وقالت له متحابة: عزيزي، لعل الأحسن ان نُلحق أمنا في دار الأسنّة، والعاملون هناك سيراعونها بأحسن مراعاة، فأجاب لها أنس: لا، لا أتركها فيها، فأصبحت فاطمة حزينة وقالت له غاضبة: لو لم تترك هذه العجوزة من هنا فلا أستطيع أن أعيش في هذه الدار مثل حمار يعمل في كل وقت، فعليك أن تتركها فيها، وأضافَت عليه بكلمات تافهة، وأجبرَتْه لترك أمه في الدار حتى يوافق أنس رأيها ويخضع لها، جلس أنس عند أمه وقال لها: أمي، أعددت لك دارا أحسن من هذه، فنحن نذهب إليها صباح الغد، لم ينتظر أنس لإجابتها ورجع الى غرفته.ففهمت لأمه عن الدار المذكورة، لكن ما قالت شيئا.
ألبست أنس أمه لباسا حسنا، فاكتظت مقلة أم أنس دمعا، وجرت في صميم وجدانها ذكريات طفولة أنس التي ألبست فيها أنسا أجمل ثوب وتزيّنته وأرسلته إلى المدرسة، ثم ركبا في السيارة وساقها بأمه إلى دار المسنين القريبة من بلدهم و تركها فيها، ولم تنبس الأم ببنت شفتها شيئا عن مبادرة ابنها الذي قضت عمرها برمته من أجل تقدمه وفاقته، تحمّلَت ودعت الله لمصلحة أنس، وكانت فاطمة في منتهى المسرة، وكان هذا من دواعي سرورها وخبورها، مرّت الأيام وكرّت الأعوام، بينما يتعايش أنس مع زوجتها منيت بها حمى شديدا، والتزمت الفراش، لم تتأثٌر بأيّ دواء، أخيرا تساقطت الأنفاس عنها مفردة لأنس في حياته، خيٌم عليه الحزن والاسى، بينما كان في تفكر و قلق طرق النوم سمعه، فحلم أنس بين نومه أمه تبتسم وتقول له بصوت خافت حنين: لا تحزن يا بني، لِم تبكي، حزنك ينهشني وبكاؤك يحزنني، فلا تقلق أبدا، وكن سعيدا، استيقظَ أنس وهو يصيح "امي"..... عذّبتك وظلمتك استغفري لي يا أمي وعافي ابنك الظالم، وخرج من البيت، وفوجئ بالذهاب إلى دار الأسنة التي تركها أمه فيها، حتى لقي أنس صاحب الدار ، وقال له: أنا أنس ابن فاطمة، تركتُ أمي هنا، والآن جئتُ لاسترجاعها إلى بيتي، ولا أتركها أبدا. فسأل له الصاحب: أتقول عن أم متكسرة العين. قال أنس: نعم، أين أمي، فأجاب الصاحب: أمك ماتت قبل سنتين، فتحيّر أنس كأنه كهربَ، وأضاف الصاحب قائلا: أمك أعطتني رسالة، و قالت لي: يجيئ هنا ابني أنس مرة ويطلبني، فأعطه هذه الورقة. ومنح الصاحب تلك الرسالة له، أخذ أنس الورقه منه ثم فتحها، كان يتقاطر من عينيه دموع اليأس والاستغفار، وأخذ يقرأ ما سطرته أمه في الورقة:" يا ابني العزيز، أنا متأكّدة أن هذه الرسالة ستجدها يوما إن شاء الله، فأريد أن أعرّفك بعض الحقائق الواقعة في حياتك، مات أبوك في حادثة مرورية، وأنت ابن نصف سنة، وأنا الحمدلله ما أصبت شيئاً فيها إلا بعض الجروح، وهناك حقيقة ماعرّفتك إياها إلى الآن، ضاعت لك بصر عينك اليمنى في نفس الحادثة، فلم أتحمّل أن أراك عديم البصر، هديتُ لك عيني اليمنى من أجل بصرك الصحيح ، فصِرت مفقودة العين اليمنى، ولا تنس يا ابني العزيز، إن كل ما تراه وترتع بالجلاء هديةٌ لك مني، في كل وقت غادرتني فيه بسببي متكسرة العين لم أُشعرك بالحزن، وذلك كله لمصلحتك ولحسنك، فادعوا لهذه العجوزة الدميمة ولأبيك الكريم" فاض سيلان الدموع من عينَي أنس، وفرّ أنس كمجنون إلى المقبرة التي دُفنت فيها أمه باكيا شديدا، وشرع يقول مضطجعا في أرض عند قبرها: أمي، أنا الظالم الشنيع غير جدير العفو وغير مستحق الغفر ... تكرر أنس هذه الكلمات مرات بعد كرات، فلَم يجُبْ طير السماءَ إلا وسمع صيحة أنس.
العبرة : يا أخي العزيز، كن لأمك حبيبا في كل وقت، هي السبب الكبير لكل نجاحك، وكل سعادتك، ولا يك حبك الى أمك منحصر في المنشورات فقط في عيد الأم، ولا تنس أن جنتك تحت قدميها...
إرسال تعليق