من السياق التاريخي الملائم لتتابع خطوات النقد وصولا إلى فترة التسعينات التي تميزت باعتبارها المرحلة الذهبية التي وصلت إليها مدارس النقد أو النقد نفسه على اعتباره فنًا، تلك الحقبة التي أخذت تُـفنّد وتراجع كتب الستينات والسبعينات، كتب الدكتور محمد مندور والدكتور عبد القادر القط وصولا للعلامة المترجم د. محمد عناني، الذي يمثل بالنسبة لي الممهد الهام لتوضيح نقاط ارتباط الجهود النقدية السابقة بالجهود اللاحقة، وبالتالي تحقق صفة التطور التاريخي للفكر النقدي في مساريه: التنظيري والتطبيقي
بعد وضع أسس نقدية بسيطة ثم تطورها على مدار الزمن؛ أصبح الأدب يذكر بالنقد، ولكني من الذين خالفوا فكرة أن الأدب أسبق، بل إنني أرى أن النقد أسبق، بيد أني أود أن أقف عند معنى كلمة "النقد" في اللغة، وإذا كان لكلمة "النقد" في اللغة معان كثيرة، فإننا سنقف –معًا-عند بعض ما له صلة بالنقد الأدبي.
لعل أشهر معاني هذه اللفظة: تمييز الدراهم وغيرها، وتبيين صحيحها من مزيفها، ومن ذلك ما أنشده سيبويه:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدنانير تنقاد الصياريف
ومنها: نقد الجوز بالإصبع لاختياره وتعر ف حاله، ومنها: ضرب الطائر بمنقاده أي منقاره في الفخ ليكشف عما وراءه من أمن أو خوف، ويقولون: نقد الرجل الشي بنظره ونقد إليه، أي اختلس النظر إليه، وفي حديث (أبي الدرداء): "إذا نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك" أي إن فتشت عن خباياهم وعبتهم عيبوك.
هذه المعاني اللغوية للكلمة تلتقي كلها عند معاني النظر، والفحص والتمييز، وما يمكن أن يتصل بتلك المعاني من العيب الذي هو نتيجة النظر والتمييز؛ الأمر الذي يقود إلى الانتقاء والاختيار والحكم، وهذه المعاني اللغوية جميعها ذات صلة بالمعنى الاصطلاحي للنقد الأدبي.
أما عن مصطلح (نقد) فلعل المعنى اللغوي الأول أنسب المعاني وأَلْيَقِها بالمراد من كلمة "النقد" في الاصطلاح الحديث من ناحية، وفي اصطلاح أكثر المتقدمين من ناحية أخرى؛ ففيه معنى "الفحص والموازنة والتمييز والحكم".( )
يحاول قدامة بن جعفر(ت337هـ) في كتابه" نقد الشعر" تحديد مفهوم النقد في مقدمة الكتاب فيقول "ولم أجد أحدا وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا، وكان الكلام عندي في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام"( ).
ويوضح الصولي(ت335هـ) مفهوم النقد حين يعلق على البحتري فيقول: "هذا شاعر حاذق مميز ناقد، مهذب الألفاظ".
وإذا استعرضنا جملة الأخبار السابقة تبين لنا أن نقد الشعر وتمييزه قد أصبح واضح المعالم في القرن الثالث، وبدأت تتشكل مدارس تلي مدارس، ووقف النقاد عند لفظة "نقد" محاولين تعريفها تعريفا اصطلاحيا جامعًا مانعًا من التلبس بمعناه اللغوي، وجميع هذه المحاولات اختلفت لفظا واتفقت معنى. من ذلك مثلا:
- أنه دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابهة لها أو المقابلة، ثم الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها .
أو التقدير الصحيح لأي أثر فني وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه .
-أو مجموعة الأساليب المتبعة (مع اختلافها باختلاف النقاد) لفحص الآثار الأدبية والمؤلفين القدامى والمحدثين بقصد كشف الغامض وتفسير النص الأدبي والإدلاء بحكم عليه في ضوء مبادئ أو مناهج بحث يختص بها النقاد .
والنقد في أدق معانيه هو فن دراسة الأساليب وتمييزها وذلك على أن نفهم لفظة الأسلوب بمعناها الواسع، وهو منحى الكاتب العام، وطريقته في التأليف، والتعبير والتفكير والإحساس على السواء ( ).
إذن فيخلص عندي أن النقد بمفهومه الاصطلاحي: هو قراءة النصوص الأدبية وتفسيرها وتقويمها، إذن فهو علم قاعدي غايته التقويم، ومن الجدير بالذكر أن بعض النقاد يعدون النقد عملية إبداع، فهو يحتاج إلى موهبة تُصقل بالتدريب والمران والإكثار من قراءة النصوص الإبداعية والنقدية؛ ولذا نلاحظ ندرة النقاد المبدعين الذين تقرأ نقدهم وكانه إبداعًا موازيًا للنص، مثلما نلاحظ ندرة الأدباء المبدعين، بيد أنه من الحق الإشارة إلى أن ملكة النقد موجودة لدى كل إنسان، وهذه الملكة تحتاج إلى التنمية، وما النقد الأدبي إلا لون من النقد الذي يصاحب كل المعارف والعلوم وضروب المواقف والسلوك؛ فعين الناقد ترى ما لا يراه الآخرون، إنها ترى بحياد تام محاسن ومساوئ العمل الأدبي والفني، وترصد المشاكل التي تنتاب حياتنا الأدبية والثقافية وتُسهم في تعميق المفاهيم وإيضاح التباسات المصطلحات المختلفة، بل وتفسر النص أحيانًا للقارئ البسيط؛ فتدفعه للاطلاع .
إذن فالعملية النقدية لا غني عن الاطلاع عنها؛ لأنها تعين الإنسان القارئ أو المتذوق على مواصلة حياته بشكل مفهوم ودقيق بعد أن صارت أمامه رؤية مختلفة للعمل عن كونه هدفًا للتسلية أو لتضييع الوقت.
وانطلاقا من الاتفاق على تعريف معنى النقد بمفهومه الاصطلاحي، فإني أستطيع أن أحدد مهمتين أساسيتين للنقد، هما:
1- التفسير.
2- التقويم.
بالتفسير يقف القارئ على ما في النص من قيم جمالية مثل الصورة والألفاظ والإيقاع والموسيقى، ويبين ترابط أجزاء المضمون، ويوضح العلاقات الفنية والمعنوية بين عناصر النص من خلال استخدام الأدوات الفنية السابقة، كذلك دراسة العلاقات الحية بين الأجزاء المتداخلة في البناء العضوي للعمل الفني؛ فيمد القارئ بضوء يرى من خلاله العمل الفني بوضوح أكثر وبذلك يستطيع أن يستمتع به بصورة أنضج وأعمق وبالتالي يمكنه كقارئ أن يجيد الاختيار بين كاتب وغيره.
وبالتقويم يستطيع القارئ مستعينا بالذوق المدرب الخبير، والمعرفة العلمية بالنصوص الأدبية، أن يصدر أحكاما على هذه النصوص، فيصفها بالجودة أو الرداءة، أو بقوة التأثير في نفس المتلقي أو ضعفه، أو بروز عنصر التشويق أو عدم وضوحه.... وهكذا.
ولعل أهمية النقد تختلف عن وظيفته؛ لأنها ليست فقط تميز الجيد من الرديء وإن كانت تلك أهمية أصيلة، لكن تتجلي أهمية النقد في إيجاد تفسيرات جديدة للنص، الأمر الذي يسهل المهمة -بعض الشيء-على القارئ.
ولعل الناقد قارئ في البداية لكن عينه الفاحصة مختلفة عن عين القارئ المنبهرة، ويبدو جليا أننا تعارفنا على أن التفسير الذي يحيله الناقد ليس هو بالأصل المعني الحقيقي للنص لكنه على كل حال إضافة للنص وإن اختلفت التفسيرات فالنص هو كل تلك التفسيرات ومقاصده هو جملة هذه التفاسير.
ويخطئ أكثر من يتناولون النصوص بالنقد، حين يعطون للرأي الشخصي، والاختيارات الذاتية مساحة كبيرة في التقييم، مع أن الحقيقة أن تناول "قصيدة" أو "قصة" أو "رواية،" أو أي صنف فني عملية معقدة، فيها مما هو "علمي" و"موضوعي" أكثر مما هو شخصي وذاتي.
صحيح أن الميول، والمزاج، والتوجه، يكون لها أثر عند الناقد، لكن هذا الأثر يتسع بقدر الابتعاد عن العلم فيصبح النقد-ساعتها-مجرد رأي شخصي، ويضيق ويقل بقدر الاقتراب من القواعد المجردة، ومدى موضوعية المعايير المستخدمة في العملية النقدية ويصبح للنقد ساعتها فائدة، بل يصح أن نسميه نقدًا.
ولعل اللافت في دراسة أي ناقد والمميز فيها هو تحيده عن الشخص محل النقد؛ لذلك فإن كل مسابقات التقييم الأدبي-الحقيقية القائمة على أسس التنافس الشريف-يتم النقد فيها بشكل غيبي؛ بحيث لا يعرف الناقد من هو صاحب العمل وبالتالي تكون الدراسة النقدية أصدق وبعيدة عن أي ميول شخصية.
لكن حين يُطلب من صديق أن يكون ناقدا يختلط في ذهنه الشخصي بالموضوعي فيأتي نقده مدحا ليس أكثر ولا يفيد، وهذا ما يحدث معي كثيرا، فكثير ممن نقدت لهم أعمال بشكل موضوعي بعيدا عن صدقتنا الشخصية اعتبر هذا النقد هجوما على العمل وهو في ذلك بين اثنين:
1- إما أنه لا يدرك أصلا معني النقد، أو يعتبر أن النقد هو نوع من المدح أو الإطراء على العمل.
2- ظنه بأن النص الذي يكتبه فوق مستوي النقد وبالتالي فالأفضل له أن يكتب لنفسه.
لذلك فإنه يجب أن يكون للناقد منهجا في النقد هو منهج ألفبائي لا يتحيز فيه لأي ميل شخصي حتى وإن كان هذا يخيب أمل البعض.
علاوة على أنني فضلت منع تصدر الساحة النقدية إلا بعد سنوات من القراءات والاستقراءات العديدة لمئات الأعمال النقدية ولأصول علم النقد القديم تحديدًا والجديد أيضا.
ومن رأيي الخالص أنه يزيد التداخل بين ما هو "ذوقي" وما هو "أكاديمي" كلما زادت مساحة الغموض في العمل؛ لأنك سترى غموضًا بعينه تستطيع أن تفسره من خلال معرفتك بالأديب صاحب العمل محل النقد، كما سأوضح وأبين في الفصل الثالث الخاص بالقضايا النقدية.
خد مثالا: التداخل يتسع مثلا لو أردنا تقييم اثنان من الأدباء الكبار مثل قيام مفاضلة بين أدب (يوسف إدريس) وأدب (محمود تيمور) مع فارق الزمن واتساع المجال أمام الذائقة الشخصية لكون البعض يري أن (تيمور) أسبق تاريخا في القص عن (إدريس) ويري الآخرون العكس، وسيصعب هنا أن يتهم فريق فريقا بعدم الفهم، أو بإهمال الموضوعية.
لذلك فعمل الناقد في النص مهما كان قاسيا لا يمكن تجاهله ولا يمكن في الوقت ذاته اعتباره تشويها، أو انتقاصا من النص بل على العكس هو يفتح النص للنقاش وينشره بشكل يغفل عنه كاتب النص.
مدرس مساعد ، جامعة الأزهر ، القاهرة
إرسال تعليق