لا أتحكَّمُ في جسدي، لا تلمس قدماي الأرض، أرى كائنًا مُنحنيًا، دقَّقتُ النَّظر به، عصفور.. نعم عصفور، لا يرفرف بجناحيه أو يحلِّق بعيدًا، لا يحطّ على شجرة، أو سلك كهرباء، أو إفريز نافذة، جناحاه مضمومان وجسده مكوّر، منقاره مطبق لا يحمل قشّة أو حبّة سمسم يطعمها لصغاره المنتظرين في العش، مؤكدًا أنه وعصفورته بذلا جهدًا مُضنيًا ليبعداه عن عبث الصبية ونزق الصياد.
عيناه شاخصتان نحوي، يبدو أنه مندهش من تشقلبي في الضباب.
أتنفَّس بصعوبة، هواء.. أريد هواء.
لم أفكر في السَّير على الحبل، حتى إنَّني لا أطيق النَّظر من الأدوار العالية، أخشى الدوار.
بينما أتشقلبُ في ضبابي رأيتُني طيلة الوقت أسيرُ على حبل مشدود، لا بداية له أو نهاية، أتعثّر، وأحيانًا أقفز في الهواء كما يفعل لاعبو السيرك، تعلو دقات قلبي وأتصبَّب عرقًا في محاولة عنيدة لالتقاط الحبل وضبط خُطوتي عليه من جديد.
في لحظات الضّعف أواصل السير زحفًا، وأتمسَّك بالحبل بأسناني كما يحدث الآن، لم تعُد لديَّ القوة اللازمة للتوازن، أودع الحبل تائهة في الضباب.
أشعرُ بالمثاقيب تثقب أوردتي، والإبرة المعوجّة تخيط قطعًا في رأسي، وكأنَّني عروسة قماش حشوها قطنًا وأغلقوا رأسها بالخيط والإبرة كي يعيدوها لِمَن يلهو بها.
تفرط عيناي دموعًا، تحتفظ بتكوُّرها كأنّها حبّات عقد أو مسبحة، أَدُسُّ يدي في شعري، ألمس الدم المتجلّط، تقبض يدٌ أخرى على يدي وتعيدُها إلى موضعها على طاولة في غرفة الطوارئ بالمستشفي العام، حيث ينظر الأطباء إلى جرحي على أنه بسيط ويمكن لممرضة الاستقبال القيام بعدة غُرَزٍ سطحيّة، وترْك أطباء الجراحة إلى الحالات الصعبة. يتعاطف مع حالتي طبيب امتياز يكتب لي على حقن مُسَكِّنة تساعدني على السباحة في الضباب.
الشجرة في حوش المدرسة أرى أغصانها، وأستيقظ صباحًا على زقزقة عصافيرها، أفتح الشرفة أجدهم يتجوّلون بين الشجرة وسور المدرسة وسلك الكهرباء وسور شرفتي، أَرُشُّ أُصُصَ الفُلّ والرّيحان برشاش المياه، أنثر فوق السور حبّات الغلّة والسمسم، أعدُّ كوب الشاي وأضع بجواره قطعتين من البسكويت، تنقر العصافير قطعة أتركها لهم وأقضم القطعة الأخرى، تلمع قطرات المياه على أوراق الرّيحان والفلّ، تسقط زهرة فلّ بعد ليلة عطرية، يتناولها عصفور يأخذها آخر من منقاره، يأتي عصافير آخرون على الجَلَبة.
يناديني زوجي: "أغلقي البلكونة عايز أنام".
حرقة في ذراعي، أنزع سنّ المحلول، تمتدُّ يدٌ بالقفّاز المطاط وتعيدُ السنَّ إلى ذراعي.
سأل طبيب الامتياز: "مَن المتسبِّب في إصابتك؟".
نظر لي زوجي وابنتي، قلتُ: "اتصدمت في دولاب المطبخ، غصب عنّي".
خرج زوجي ليحضر تاكسي، بقيت ابنتي تساعدني في لفِّ الطّرحة لأداري الشاش المبقّع بالمطهّرات.
في هذا الصباح قرّر زوجي أن يضع النقاط فوق الحروف.
قال: "انسي حكاية الندوات وكتابة القصص، بلاش كلام فارغ".
قلتُ: "عندي ندوة مهمّة الأسبوع القادم".
قذفَني بطبق الخوخ، طبق من الخزف الأبيض، ملأتُه بالخوخ ووضعتُه ليلة أمس على الطاولة الصغيرة بجوار زجاجة المياه المثلّجة. مفاجأة، لم يسبق أنْ قذفَني بأيّ شيء، طار الطبق وتناثر الخوخ، اصطدم الطبق برأسي، صدمة قاسية لم أشعر بعدها إلا بالضّباب والمثاقيب في أوردتي.
توقفت العربة أمام البيت، أفرع الشجر مكوَّمة فوق الرصيف، حاولتُ الاطمئنان على شجرة العصافير، لم أستطع، حركة الرأس تؤلمني.
فتحتُ الشرفة، رأيتُ الشجرة عارية من أغصانها، دخلتُ حجرة نومي، وجدتُ الطبق الخزفي متصدِّعًا بعدّة شروخ، وجزء منه غير موجود، والخوخ منثور على الفراش والأرضيّة، وعليه بقع دماء متجلّطة، وكسوة الوسادة غارقة بالدِّماء، أهذه دمائي؟!
هجرَتْ العصافير الشرفة، وهجرتُ غرفة نومي، كرهتُ الخوخ.
اعتذر زوجي محمِّلًا الكتابة الذَّنب، فهي تجعلني عصبيّة، وتأخذني منه.
ذَبُلَ الفُلّ.
ندمتُ على عودتي لغرفة نومي عندما سمعتُ زوجي يحدِّث صديقه في التليفون، ويتباهى بأنه ذات صباح حطَّم رأسَ زوجته.
الرّيحان يقاوم الذبول لأنّي أغفل عن رعايته.
بقلم : عزة دياب
إرسال تعليق