لم تكن الشمس قد أُذنَ لها لتنير عتمة غرفة تضمّ دياباً وزوجته وبناته الخمس، وقطة بجوار الفراش تموء بصوت خفيض، وكلباً على باب الغرفة الموصد جاثماً كأبي الهول، ينتظر صياح الديك؛ ليوقظ أصحاب الغرفة، ليمنحوه قطعة خبز، بعد أن قضى ليلته على سقف البيت يحرسهم وهم نيام، في حين أنهم يسمحون للقطة بالبقاء معهم في الغرفة، بحجة أنها تخلصهم من الفئران، فما أكثر حظ القطط، عما سواها هنا.
استفاقت (عائشة) زوج (دياب) من كابوس، كاد أن يكتم أنفاسها، فقد رأت ثعباناً نهش قدمها، وجاء من أقصى القرية غلام مهرولاً، فقتل الثعبان وأخرج بقايا السم من قدمها، ولما استفاقت سألت ابن هذا الغلام؟ فقالوا لها إنه ابنك. ولما جلست تسترجع الكابوس، تذكرت أنها لم تنجب سوى بنات، فتمتمت: لعله خير وإن كان الثعبان عدواً، ولكنه قُتل، وانسلت بهدوء من الغرفة، كي لا توقظ نيامها.
ذهبت إلى حظيرة المنزل التي تضمّ ماشية وطيوراً وثلاث دجاجات وديكاً، منحت كل ما فيها من ماء وعلف وحبوب وتبن، وخاصة حمار زوجها، لأنه بعد قليل سيصطحبه في رحلته اليومية إلى الحقل، وجمعت بيض الدجاجات لتقتات بها هي وبناتها، لأن زوجها لا يحب بيض الدجاج صباحاً، ومن ثم أشعلت الفرن الطيني؛ لتسخين الخبز، فدياب يحب خبز الفطور ساخناً مع كوب الحليب، الذي ستأتي به من بقرة قد ولد لها عجل، منذ شهرين والعائلة سعيدة بهذا المولد، (فثمن الذكر يفوق ثمن الأنثى، حتى في الطيور والماشية)، وسيباع بثمن كبير، سيساعدهم في نفقات المعيشة في مجتمع محدود الدخل، والنفقات أيضاً.
هكذا تبدأ الحياة هنا، في قرية (الشيخ بركة – بجنوب مصر)، سيدة البيت تطعم الطيور والماشية، وتحلب اللبن وتشعل الفرن صيفاً أو شتاء، بغرض تسخين الخبز والماء، وفي الشتاء تجلس الأسرة إلى جواره، لتأخذ قسطاً من الدفء، ما عدا سيدة البيت، فهي تصبّ لهم الحليب أو الشاي، وتجهز لزوجها حماره وفأسه، ومن ثم يستيقظ الزوج، ليتوضأ، وقبل أن ينتهي من صلاته وأدعيته الصباحية، يكون الصغار قد استيقظوا وجلسوا جميعاً حول مائدة الفطور، ومتى جاء الأبّ يوضع أمامه طبق الحليب الساخن، ورغيف الخبز، وملعقة وكوب الشاي، وإلى جوار طاولة الإفطار ينتظر القط والكلب وبعض الطيور نصيبهم من وليمة أصحاب البيت.
ولما استوى دياب على رأس (الطبلية) ، خاطب زوجته : قطتك المدللة تموء طوال الليل، يبدو أنها قاربت على الولادة. فردت عليه – بعد أن قربت منه طبق الحليب -: هي على وشك أن تضع حملها، فقد مضى شهران على (أمشير) ولذلك أتركها تنام في الغرفة. فهز رأسه قليلاً، ونظر إلى بناته الخمس، وحمل كوب الشاي، وتراجع قليلاً عن الطاولة، في إشارة إلى أنه قد شبع، وعلى الجميع أن يستعجل في الأكل، كي يبدؤوا أعمالهم اليومية، فلا شيء يمكث هنا، بدون عمل، حتى القطط.
استشعرت عائشة من نظرته الحائرة إلى بناته، أنه يفكر في إنجاب (الولد)، (مادام حكى في أمر القطة، وكأن القطة أنجب منها)، خاصة أنها قاربت الأربعين من عمرها، لطالما تضجر دياب حين يناديه الناس بأبي الغايب، فقالت له مخففة من شروده: لقد رأيت ثعباناً لدغني، وجاء طفل، بيده فأس، وقتله، وقيل لي إن هذا ابنك.
وقبل أن تكمل حديثها العفوي،مصمص دياب شفتيه من بقايا الشاي وقال بصوت لا يخلو من السخرية: هل أطعمت الحمار؟
بقلم : عبد العليم حريص
فصيحة
ردحذفقصة جميلة.. كل التوفيق
ردحذفإرسال تعليق